دور الصوم في بناء الشخصية الاسلامية
جعل الله للإنسان نوعين من الصوم: صوماً صغيراً وصوماً كبيراً فالصوم الصغير مقدّمة للصوم الكبير والمعركة الصغيرة مع النفس في شهر رمضان هي مقدمة للمعركة الكبيرة مع النفس ومع الآخرين في غير شهر رمضان
عن معاني الصوم في شهر رمضان المبارك نعرض عدداً من النصوص المختارة لسماحته والتي تبين أهمية هذا الشهر الكريم والدروس التي لا بدّ للمسلم أن يستفيدها منه،وذلك بلغة سماحته السهلة الممتنعة التي تدخل القلب وتستوطنه وتستثير اريحية النفس على أبواب شهر الفضائل والخيرات وفيما يلي النصوص:
شهر رمضان في حركة الشخصية الإسلامية
اعتاد المسلمون أن يحتفلوا في كلّ عام بقدوم شهر رمضان، وبطريقة مميزة، لأنه شهر الصوم، في ما يمثله الصوم من معنى الفريضة العبادية ، التي تستلزم تغييراً في النِّظام الغذائي اليومي، وفي الممارسات العملية التي يستجيب فيها لشهواته وملذّاته في ما يفعله وفي ما يتركه منها، وفي الأجواء الروحية الداخلية التي يمكن أن يعيشها من خلال هذه الفريضة .. وإذا كانت التقاليد الشعبية تتحرّك في حياة الناس من حدث طارئ، أو موقف معيّن، فإن هذه الفريضة قد تحرّكت في الطريق إلى خلق تقاليد شعبية جديدة في أسلوب ممارساتهم للحياة الاجتماعية الخاصة والعامّة.. حتى صارت جزءاً من شخصية هذا الشهر في ما تتميّز به الأزمنة من الملامح الشخصيّة..
ولا نريد أن نفيض في هذا الحديث عن طبيعة هذه التقاليد في نطاقها السلبي والإيجابي في ما استطاعت معه أن تغني التجربة، أو تفقدها معناها، لأننا نعرف أن للتقاليد في حياة الأمم، وفي حركة القضايا، سلبياتها التي تجمد المعنى في عمق الواقع، وإيجابياتها التي تركّز الرمز في امتداد الزّمن.. ولسنا هنا في بحث عن ذلك كلّه، لأنه لا يتّصل بالغاية التي نريد أن نثير فيها الحديث..
إنّ ما نحاول إثارته هنا هو الجواب عن سؤال محدّد: كيف يمكن تحريك الدور الفاعل لهذا الشهر في حركة الشخصية الإسلامية؟ لأننا في هذه اليقظة الإسلامية الجديدة التي تطفو على سطح التيار، نحاول تعميق المشاعر الروحية والأفكار الواقعية لها، حتى لا تتحوّل إلى ظاهرة عابرة في حركة الواقع، بل تبقى عنصراً ثابتاً من عناصر الدّفع المستقبلي نحو النمو والتقدم والتجدد المستمّر..
أمّا الإجابة على هذا السّؤال، فقد تتحدّد في العمل على تحريك نقاط ثلاث:
النقطة الأولى: دور الصّوم في تنمية الشخصية الإسلامية:
فقد نستطيع التوقف أمام هذه الفريضة لنجد أنّها تمثّل في تكوينها الماديّ إنْ صحّ التعبير الإمساك عن الطعام والشراب وبعض الملذّات الخاصّة، وتمثّل في مدلولها الروحيّ، العمل الذي يأتي به الإنسان متقرّباً إلى الله، في ما تعنيه عباديّة العمل من انطلاقة من معنى التقرّب به إلى الله..
فإذا وحّدنا بين الجانب الماديّ والروحي، كانت النتائج الحاسمة: يقظة روحيّة متحركة في داخل الإرادة، وإرادة ثابتة قويّة في حركة الروح، ما يوحي للإنسان بالمراقبة الدائمة لخطواته العملية، ومشاعره الذاتية وأفكاره الخاصّة، من خلال ما تحققه المراقبة اليومية في مسألة الملذّات العادية التي يريد أن يحفظ نفسه من ممارستها، فإنّ الالتزام بالكفّ عنها على أساس هدف القرب من الله، يعمّق في الذّات بشكل متحرّك معنى القرب من الله كعنصر أساس من العناصر الحيّة من غايات الإنسان في الحياة، وهو ما ينعكس إيجابياً على كلّ جوانب شخصيته الأخرى في الفكر والشعور والعمل..
لأنّ القاعدة الثابتة واحدة في ذلك كلّه، فالإنسان لا يمكن أن يحقق القرب من الله في حياته إلا إذا تحوّل كيانه إلى حركة دائبة شاملة في هذا الاتجاه في جميع المجالات العملية التي يستهدفها في الحياة..
وهذا ما تعمل التربية الإسلامية الهادفة على تحقيقه في عمليّة تدريب الإنسان المسلم، عندما توجّه كلّ اهتماماته نحو الله، باعتبار أنه غاية الغايات، فلا يتحرّك الإنسان إلا من خلاله، على أساس الشعور الحميم العميق بالخوف منه أو المحبة له.. وهذا هو معنى العبودية في ما تعنيه من الخضوع المطلق لله، في كل منطلقاته وتطلعاته، وذلك هو سرّ التوحيد الإسلامي الذي يمثّل وحدة الدّرب والهدف من خلال وحدة الخالق في ما توحيه لنا الآية الكريمة..{إنّ الذين قالوا ربّنا الله ثم استقاموا تتنزّل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنّة التي كنتم توعدون**(فصلت:30).
والآية الكريمة:{قل إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ء لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أوّل المسلمين**(الأنعام:162-163).
وقد يستطيع الصّوم، في مدلوله الإنساني، أن يحرّك الجانب الاجتماعي في شخصية الإنسان المسلم، وذلك من خلال بعض المشاعر الذاّتية التي يعيش فيها الشعور بالجوع والحرمان في ظروف اقتصادية صعبة، ليثُير في نفسه الإحساس بالمسؤولية في الخروج من هذا الواقع الذي يفرضُ مثل هذه المشكلات والآلام، فيتحرّك تبعاً لذلك، من أجل المواجهة العمليّة للواقع، بالجهد الفردي تارة، أو بالجهد الجماعي أخرى، أو بالتحرك السياسي المتجه نحو التغيير في حالة ثالثة..
وقد يثير الصوم مشاعر الإنسان في الأجواء الروحية نحو أفق أبعد، فينتقل من الشعور بالجوع والحرمان إلى ما ينتظره في يوم القيامة من جوع وعطش، عندما يطول وقوفه بين يدي الله على أساس الأعمال المنحرفة التي تنتظر من خلالها الحسابات الدقيقة الطويلة، فيعمل في الدنيا ليخفف عن نفسه هذا الموقف الطويل، لما يتراجع فيه من خطوات، وما يصحح من أخطاء، وما يتحرك نحوه من مشاريع وأهداف، وهذا ما عالجه رسول الله(ص) في بداية خطبته التي استقبل بها شهر رمضان المبارك:
«واذكروا بجوعكم وعطشكم جوع يوم القيامة وعطشه».وهكذا نجد في الصوم مجالاً واسعاً للانطلاق إلى آفاق متنوعة واسعة في ما يريد الله للإنسان أن يعيشه من آفاق الخير والتقوى والصلاح..
النقطة الثانية: دور قراءة القرآن:
حيث إن النصوص الدينية تؤكد استحباب قراءة القرآن الكريم في هذا الشهر، فيمكن للإنسان أن يستفيد من الجوّ الروحي المتحرك مع الجو القرآني، وأن يحرّك في داخله الحيوية والانفتاح والامتداد، لأن قراءة القرآن قد تختلف في تأثيرها على النفس، تبعاً لاختلاف الجوّ الذي تعيش فيه القراءة..
إنّ جوّ قراءة القرآن في شهر رمضان في لياليه وأيّامه، حيث يرتفع بالإنسان إلى روحية عالية بأجوائها.. فإذا أضفنا إلى ذلك الثقافة الإسلامية التي تتمثّل في القرآن في ما تحمله آياته من مفاهيم الإسلام وأفكاره وشريعته، عرفنا كيف يساعد ذلك على نموّ الشخصية الإسلامية التي ينبغي لها أن تعيش فكرها في أجواء روحيّة هادئة، لتتمكّن من خلال ذلك من الانطلاق من قاعدة فكريّة روحيّة عميقة في داخل النّفس والفكر والوجدان..
النقطة الثالثة: دور الدعاء في شهر رمضان:
قد يكون الدعاء من أبرز الأعمال العبادية الظاهرة في شهر رمضان، في ما يمارسه المؤمنون في سائر أوقات الشهر، حتى يشعر الإنسان بأنّ هناك شمولاً في ما ينبغي للمرء أن يدعو به، وقد تنوّعت أساليب الدعاء ومضامينه في ما حفلت به الأحاديث المأثورة من نوعيات الأدعية، التي يجد الإنسان نفسه من خلالها في جولة واسعة في رحاب الله وفي آفاق النفس وفي أوضاع الحياة المحيطة به، في أسلوب روحي لذيذ يرتفع بالنّفس إلى سماوات الروح والإيمان والإبداع ليصنع الإنسان المسلم الجديد..
وهناك الأدعية الاجتماعية الإنسانية التي تثير في داخل الإنسان الشعور بمشاكل الناس من حوله، إضافة إلى مشاكله الخاصّة، في عمليّة إيحاء روحية بأنّ عليه أن لا يبتعد عن الحياة في نطاق مسؤوليته عندما يلتقي بالله ويجلس بين يديه بل يحاول الاقتراب من ذلك كله، ليعرف أن الحياة كلها، في مشاكلها وحلولها، مشدودة إلى الله في عملية البقاء والامتداد، كما هي مشدودة إليه في عملية الخلق، وتحرّك في داخله الشعوربأن العبادة لا تعزل الإنسان عن الحياة، بل تربطه بها بطريقة واسعة مثيرة، وهناك الأدعية التي تخلق في وعيه الوعي السياسي في ما يلتقي به من المشاكل الإسلامية العامة في الحكم والحاكمين وقضايا العدل والظلم والحق والباطل، لتتحوّل إلى دعوات ورغبات وأمنيات يطرحها بين يدي الله سبحانه وتعالى،ليكون ذلك سبيلاً من سُبُل الوعي الذي يختزنه الإنسان في أجواء العبادة .
دور الصّوم في تصويب قضايانا..
الصوم: صناعة التقوى:
{يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام** هذه الفريضة التي فرضها الله على كلّ عباده في كلّ رسالاته، كانت تتنوّع وتختلف في ما يلزم الله به عباده بين تعاليم نبي وآخر، ولكن المسألة أن الله أراد للناس أن يصوموا حتى يستطيعوا من خلال الصّوم أن يحصلوا على التقوى، ليكون الصوم طاعة لله في نفسه، باعتباره امتثالاً لأمر الله، وليكون طاعة لله من خلال أنه يحقق للإنسان روح التقوى في روحه، وعقلية التقوى في فكره، وحركة التقوى في حياته، ليكون الإنسان من خلال الصوم، الإنسان التقي الذي يخاف الله في نفسه، فيراقبها في ما يعيش في نفسه من أفكار، ويراقب الله في نفسه في ما يتحرك به من أعمال ومشاريع.. وهكذا يريد الإسلام من خلال العبادات وفي مقدّمتها الصّوم، أن يصنع الإنسان التقي الذي يعيش في الحياة ولا يحتاج إلى سلطة تفرض عليه النظام والالتزام والاستقامة، بل إنّ شعوره بسلطة الله عليه وعلى الحياة كلها ، يجعله يحاسب نفسه قبل أن يحاسبه الناس، ويجعله يحاكم نفسه قبل أن يحاكمها الناس، ويجعله يمنع نفسه ويضغط عليها بأن لا تعتدي وأن لا تظلم وأن لا تسيء قبل أن يضبطها الناس..